الدكتور رضوان غنيمي : فقه الصيام زمن الحجر الصحي

بقلم الدكتور رضوان غنيمي : أستاذ بكلية العلوم الشرعية بالسمارة

إن تغير الزمان والمكان والأحوال في حقيقتها رسائل الله إلى خلقه ولا شك يعتبر بها من كان له قلب أو به بقية حياة، وقد ابتلينا اليوم بمرض الغفلة عن رؤية واقعنا فتبلدت مشاعرنا واستوحشت أرواحنا فما استفدنا مما يحدث حولنا ولا مما يقع لنا، ثم تخللنا رحمات الله عز وجل من خلال مواسم الخير والطاعات، وقد أظلنا زمن هذه المحطة الإيمانية العظيمة فكان استقبالنا لشهر رمضان هذا العام مطبوعا بتداعيات هذا المصاب الجلل الذي حل على الإنسانية ضيفا غير مرغوب فيه،في وقت حُرمها الكثيرون ممن واراهم الثرى، فنحن إذا بصدد فرصة ومنحة ربانية يمكن أن نفصل بها بين ماض أثقلته جراح الخطايا والذنوب ومستقبل مشرق يشع أملا في التحرر من ثقل هذا الماضي، لنخرج من رمضان وقد غفر لنا ما تقدم من الذنب، وقد عُتقنا من النار، لكن ليس ذلك بالتمني ولا بكثرة تَكرار ذكره فما هو إلا العمل فأنت الصائم حقا،  أو غير ذلك فيرجع الواحد منا بخفي حنين، بل هو أشقى وأتعس، وإني لأراه الأحق بالعزاء قال ﷺرغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة.

نستقبل الشهر الفضيل في أجواء ما عهدناها ولا عرفناها وما حدثنا بها آباؤنا فما كان يخطر ببال أحدنا أننا سنصوم يوما ما في صمت، أقول في صمت واقصد بذلك ما ألفه الناس من العادات والتقاليد والطقوس التي ربطوها بعبادة الصيام في شهر رمضان لدرجة أصبحت هي الغالبة، وضاعت حقيقة وروح الصيام، والأصل لا يقضي الله تعالى للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له وما يفعل ربك إلا خيرا وفي كل نقمة نعمة، ولعله قد آن الأوان لنحقق في أنفسنا مقاصد الصيام التي شرع من أجلها، صحيح قد حرمنا جماعة التراويح في بيوت الله لكن فتح أمامنا بالمقابل باب خير عظيم لطالما غفلنا عنه، وهو تعهد أبنائنا في عباداتهم في هذا الشهر الكريم

خير عميم ذاك الذي كنا نغفل عنه من أن نجعل من صلاتنا في بيوتنا استجلابا للطمأنينة والبركة مع أن الأصل في النافلة أن تكون في البيوت قال ﷺ “اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم لا تتخذوها قبورا” .

لقد حبسنا عن بيوت الله حابس الفيل أي نعم لكن النعمة في هذه النقمة أن أراد لنا الله تعالى أن نظفر في هذه الليالي المباركة من هذا الشهر برتبة ذاك الذي ذكر الله خاليا ففاضت عيناه قال ﷺ: سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: إِمامٌ عادِلٌ، وشابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّه تَعالى، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في المَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا في اللَّه: اجتَمَعا عَلَيهِ، وتَفَرَّقَا عَلَيهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ، وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخافُ اللَّه، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فأَخْفَاها، حتَّى لا تَعْلَمَ شِمالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينهُ، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّه خالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ” .

وأكرم بها من رتبة ومكانة قد تبكي في جماعة المسجد وقد تتباكى لبكاء القوم لكن دمعة تسيل على خد وجه قائم لله عز وجل في عمق بيته حيث لا مجال للرياء  و طلب السمعة، صلاة الناس في بيوتهم فرصة للقضاء على خلافاتهم الأسرية التي قد تنشأ بانعدام تلاوة القرآن ابتداء أو في الصلاة داخل البيت وقد كان الإمام مالك إذا جاءه الرجل يشكو زوجه وما بينهما من الخلاف أمره بالصلاة في بيته والإكثار منها (النوافل)

وحيث إن العبادات في الإسلام غير مطلوبة لذاتها وإنما لتجلياتها في حياة صاحبها وانعكاسها على علاقته بخالقه ونفسه وغيره، فإن جزءا كبيرا مما كان يهدد سلامة عبادة الصيام  ، قد رفعه الله عنا بفضل هذا الحجر الصحي الذي فرض علينا فرضا ونحن له كارهون.

إن الصيام زمن كورونا فيه من الإيجابيات الشرعية المعينة على حسن الصيام وحسن القيام الشيء الكثير مما غاب على من ارتبط عندهم شهر رمضان بطقوس لا ترتبط بعبادة الصيام ولا بشهر الصيام وإنما هو التدين الفلكلوري الذي يستهوي البعض التجمل به

سوف يسجل التاريخ أنه قد أتيح لنا ما لم يُتح لأسلافنا ولا لمن سبقهم في أن نصوم شهر رمضان صياما كاملا ونحن في مأمن من مفسداته إلا من سعى إليها فهل من نعمة أعظم من نعمة الفراغ حال الصيام؟ فأنت بين نعمة الصلاة وقراءة القرآن تارة وبين مناجاة ربك في خلوتك مع أهلك تارة أخرى.

تقبل الله صيامنا وقيامنا ورفع عنا الوباء وأبعد عنا البلاء إنه ولي ذلك و القادر عليه.




قم بكتابة اول تعليق

أترك لنا تعليق

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


+ 50 = 55