جريدة المنبر المغربية ..بقلم الدكتور رضوان غنيمي أستاذ التعليم العالي بالكلية المتعددة التخصصات بالسمارة
ذكر البلاذري في أنساب الأشراف أن أبا العباس السفاح وهو أول خلفاء بني العباس كان يحب المسامرة وفصاحة الكلام فأحضر أبا مخرمة الكندي ومعه نفر ضمنهم أخوال أبي العباس السفاح وكلهم قحطانيون يمنيون، وأحضر خالد بن صفوان بن الأهتم التميمي أحد أكبر فصحاء مضر، فتفاخرا فقال أبو مخرمة الكندي: إن أهل اليمن ملوك العرب في الجاهلية، ورثوا الملك كابرا عن كابر، وآخرا عن أول، فمنهم المناذرة ومنهم القوابسة، ومنهم عياض صاحب البحر ومنهم من حمى لحمه الدبر ( الصحابي ثابت بن عاصم) ومنهم غسيل الملائكة ( حنظلة بن أبي عامر) ومنهم من اهتز لموته العرش ( سعد بن معاذ) ومنهم مكلم الذئب (أهبان بن أوس الأسلمي) ومنهم من كان يأخذ كل سفينة غصبا، وليس من شيء له خطر إلا نسب إليهم من فرس رائع و سيف قاطع ودرع حصينة، و حلة مصونة، إن سئلوا أعطوا وإن نزل بهم ضيف قروا فلا يكاثرهم مكاثر ولا يفاخرهم مفاخر فهمُ العاربة وغيرهم المستعربة فقال أبو العباس ما أحسب التميمي يرضى بهذا، فقال ابن صفوان: لقد اقتحم هذا المتكلم بغير علم وأخطأ إذ نطق بغير صواب كيف يفخر على مضر وفيهم رسول الله ﷺ والخلفاء من بعده بل كيف يفاخر مضر بقوم هم بين راكب عَرض (حمار) وناسج بُرد (حائك) وسائس قرد ودابغ جلد، دلّ عليهم هدهد وغرقتهم فأرة (سد مأرب)، ثم التفت إلى مخرمة الكندي وقال له أتفاخر مضر وفيهم رسول الله ﷺ سيد الأنام وأكرم الكرام ولله به المنة علينا وعليهم… ثم قال له كيف معرفتك بلغة قومك وما اسم الأصابع عندكم؟ قال: الشناتر قال فما اسم الأذن عندكم؟ قال: الصنارة، فقال ابن الأهتم فإن الله يقول بلسان عربي مبين فهل سمعته يقول جعلوا شناترهم في صناراتهم؟ فقال الخليفة يا يماني مالك ولرجال مضر؟.
إن هذه القصة دالة ولاشك صارخة مصرحة بأن من تمام الحُمق أن يقتحم من ليس له علم بمجال من المجالات فيسعى إلى تبخيسه وسلبه جدواه وهو جاهل بحقيقته، فيضع نفسه في مواطن الهاوية وقد أظهر عوار نفسه، وضعف اطلاعه، وجهالة مدركه، وقد كان في غنى عن كل ذلك، وإن من أشنع وأقبح هذه التقحمات أن يكون مجالها الشريعة المشرفة الربانية، فيقارنها الجاهل بحقيقتها بما تولد عنها، واستُمد منها، واكتسب شرعيته ومشروعيته من آحاد جزئياتها، فأي فضل لأي مجال وأي تخصص وأي علم على علوم الشريعة؟ وبها ووفقها كُرّم الإنسان واكتسب آدميته، بل كيف يروم أحدهم الانتقاص من علوم يشرف بها صاحبها ورسول الله ﷺ” من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ” .
إن من أقبح مظاهر الإفلاس الأخلاقي والعلمي والتربوي أن تجد مسلما يفاضل بين علوم الشريعة وغيرها من العلوم فيروم الانتقاص من علوم الشريعة، على شرف كل العلوم من حيث كونها علوما بغض النظر عن مجالاتها المعرفية، ألم يعلم هذا المتكلم أن العلوم الشرعية مخصوصة بالأمر بتبليغها دون غيرها من العلوم بل وتحريم كتمانها؟، فقال تعالى: ” إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولائك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون” فكيف لا يكون الشرف والريادة لعلوم الشريعة بعد هذا؟ ألم يعلم هذا المتكلم أن الله عز وجل قد استشهد بأولي العلم الشرعي على أجلّ مشهود وهو التوحيد فقال سبحانه:” شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط” ألم يعلم هذا المتكلم أن الله تعالى فاضل بين الناس على أساس العلم الشرعي بداية من تعلم الوضوء إلى كيفية تغسيل الميت فرفع قدر العلماءفي محكم تنزيله فقال تعالى:” يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات”ألم يعلم هذا المتكلم أن تعلم علوم الشريعة من فروض الأعيان، وأن غيرها من العلوم التابعة لها من فروض الكفايات؟ ألم يعلم هذا المتكلم أن الله تعالى لم يأمر نبيه أن يستزيد من شيء إلا من علم الشريعة الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر دينه في عباداته ومعاملاته ..
إن مما ابتلي به بعض الناس ممن يحسبون على المثقفين أن امتلكوا الجراءة في الخوض فيما لا علم لهم به، ولا طاقة لهم بإدراك كنهه ومقاصده، فنطقوا بغير علم فأضروا أنفسهم قبل غيرهم، وإن فصل المقال أن العقل السوي، والفكر المتزن، والفطرة السليمة، لا يمكنها الخوض في مسألة المفاضلة بين علوم الشريعة وغيرها من العلوم، لحاجة الناس إلى ما يصلح دنياهم من مختلف العلوم إنسانية كانت أو بحثة، وما يصلح دنياهم وأخراهم من علوم الشريعة، وهو ما دل عليه المنهج النبوي الجامع بين الحاجة إلى الأمرين فقال ﷺ«اللَّهُمَّ أصلِحْ لي ديني الَّذي هو عِصْمة أمري، وأصلِحْ لي دنياي التي فيها معاشي» .
قم بكتابة اول تعليق