
المنبر المغربية : بقلم الدكتور رضوان غنيمي استاذ التعليم العالي بالكلية المتعددة التخصصات بتارودانت
من السنن الكونية المطّردة التي قضى بها الله عز وجل أن ما من نبي أو مصلح دعا إلى الله وجهر بدعوته وأظهر عوار قومه إلا وواجهوه بإخراجه من وطنه وإبعاده عن مسقط رأسه، وقد حكى القرآن عددا من هذه النماذج من ذلك ما قصّه علينا السياق الكريم عن حال إبراهيم مع أبيه وقد محّض له النصح قال تعالى قَالَ :
أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ۖ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ۖ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا .. قال تعالى : أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهّرون .. والعقاب نفسه طال نبي الله شعيب ، قال تعالى : قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنّك يا شعيب .. و لم يُستثن محمد من هذه السنة الإلهية كما أشار إلى ذلك ورقة بن نوفل لما جاءه رسول الله مع خديجة فقال لها ، هذا الناموس الأكبر الذي أنزل على موسى يا ليتني أكزن حيّا حين يخرجك قومك قال رسول الله : أو مخرجي هم وكأن النبي استغرب أن يُخرج من وطنه ويُبعد عن أهله ووجد ذلك قاسيا لأن الله عز وجل ساوى في محكم كتابه بين القتل وبين الإبعاد عن الأوطان قال الله تعالى في حكم المحارب : إنّما جزاءُ الذينَ يُحاربون اللهَ ورَسولَه ويَسعونَ في الأرضِ فَسادًا أن يُقَتَّلُوا أوْ يُصَلَّبًوا أوْ تُقَطَّعَ أَيديهِم وأَرجُلُهم مِنْ خِلافٍ أوْ يُنْفَوا مِن الأرْضِ .. وهذا العقاب دليل واضح على مدى تعلق الناس بأوطانهم فطرة، ولأجل ذلك اعتبر حب الأوطان دليل سلامة الفطرة حتى قالوا فطرة الرجل معجونة بحب وطنه : بل ثبت عن رسول الله : أنه كان إذا أراد أن يرقي أحدا بلّ أصبعه بريقه ثم وضعه في التراب ثم مسح به المريض ويقول : بسم الله، تربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى سقيمنا بإذن ربنا ولأجل ذلك نفهم لم كان الناس إذا سافروا أخذوا معهم من تراب أوطانهم، وأضراب هذا كثير لكن للأسف هذا الكلام لا يُذكر على مسامع شبابنا ولأجل ذلك زهد الناس في أوطانهم وهان عليهم أمر مفارقتها، بل وتنكروا لها، في وقت نقرأ في سيرة رسول الله أنه لما خرج من مكة مهاجرا تلفّت نحوها وقال والله إنك لأحب البقاع إلي ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيركذه المقدمات لأقول لقد ابتلي آباؤنا وقبلهم أجدادنا بمن حاولوا إبعادهم عن وطنهم بالتضييق عليهم في أرزاقهم، وحرمانهم حرياتهم، بل وسومهم سوء العذاب بين سجن ونفي وقتل فخاضوا مقابل ذلك مقاومة حقيقية، العلماء من جهتهم والمفكرون من جهتهم والمقاومون المسلحون من جهتهم، كل ذلك خلف قيادة رشيدة حكيمة من المغفور له محمد الخامس الملك الذي ضحى بعرشه وتعرّض للنفي والإبعاد من قبل المستعمر ليحققوا جميعهم العزة والحرية والكرامة لهذا الوطن وأهله من الأجيال اللاحقة، ثم آل الأمر إلى وارث سره المغفور له الحسن الثاني مع جيل آخر من أبناء هذا الوطن الذين التفوا حول قيادتهم كما كان العهد بآبائهم في سبيل استكمال الوحدة الترابية للوطن فكان حدث المسيرة الخضراء التي كتبت ضمن بطولات هذا البلد، ونحن نعيش اليوم مع أمير المؤمنين محمد السادس حفظه الله مسيرة أخرى لا تتوقف، مسيرة البناء والتنمية الشاملة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وهي مسيرة دائمة باقية ما بقي هذا البلد ركبها متاح للجميع لكنها في نفس الآن لا تنتظر أحدا بل من أراد أن يلحق بها ركب ومن اختار القعود قعد لكن التاريخ لا نسى، أقصد إذا كان آباؤنا وأجدادنا وملوكنا قد ضحوا بمهجهم، وجادوا بأموالهم في سبيل أن ننعم باستقلال يمكننا في أضيق تجلياته من ممارسة تديننا في مختلف ظروفه وأوضاعه فإن الواجب الأخلاقي يسائلنا اليوم عن ضرورة وقوفنا مع تاريخنا وبثّ قيم الوطنية في ناشئتنا وشبابنا عند استحضار هذه المناسبات المشرقة حتى لا تمر علينا وكأنها أيام عطلة ثم نعود لسالف عهدنا دون أن نتعلم، وليس هذا هدي العقلاء الألباء، لأجل ذلك تنكرّ ذو الحلم لنفسه لما لمس فيها النسيان وعدم الاعتبار فطلب من جاريته أن تقرع له العصا إذا رأت منه ما لم يكن من عادته، فقال المتلمس في ذلك لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا ”
إن الحديث عن استقلال الوطن حديث يردّنا إلى ديننا وينبه إلى حقيقة ما ينبغي أن يكون عليه التدين الصحيح على مستوى الارتباط بالأوطان، كما يبرز محورية الاسترشاد بالدين في أي إقلاع منشود لأن حضور الدافع الديني لحب الوطن والذود عنه كان مفهوما لدى المستعمر فأظهر رعبه وخوفه من علماء القرويين كما عبر عن ذلك اليوطي حين قال;” إني لا أخاف على فرنسا من أي شيء في المغرب، ولكن أخاف من أولائك الذين يلبسون جلبابا واحدا ذا قبين ويدخلون ويخرجون مطرقي الرؤوس من أبواب تلك البناية التي يطلق عليها اسم القرويين فهؤلاء لا صلة لهم بحضارتنا وهم يكنون في أنفسهم عقيدة إسلامية عميقة الغور، ويثنون صدورهم بكل أعماقهم عن حضارتنا، ويكنون لنا حقدا دفينا يستحيل علاجه، فإذا نحن قضينا عليهم طابت لنا في المغرب الحياة الأبدية ولكن هيهات أريد أن أقول أننا إنما حصلنا على الاستقلال برجال ما كانوا ليبيعوا وطنهم ولا دينهم ولا أعراضهم مقابل مال الدنيا، فهل نحن يا ترى في مستوى حفظ هذا الاستقلال، وهل نقدره قدره وقد أصبح الواحد من شبابنا مستعد للتنازل عن وطنه، عن دينه، عن مبادئه، مقابل عرض زائل وهذه الأصناف من الناس في نظري هي الخطر الحقيقي الذي يمكنه أن يقوّض دعائم القوة ويؤثر سلبا على تقدم ركب التنمية، أما محاولات العدو الخارجي فقد أثبتت التجربة التاريخية أنها لم تزد المغاربة إلا عزما وقوة وصلابة، فلم يؤثر فيهم الظهير البربري، ولم يؤثر فيهم نفي ملك البلاد، ولم يؤثر فيهم أن اغتصبت أموالهم وأراضيهم ولم يؤثر فيهم أنهم سجنوا وعذبوا بل لم يؤثر فيهم وقتل أقاربهم وأصدقاءهم بل زادهم قل ذلك قوة وصلابة في مواجهة المعتدي وتشبثا بمقومات وحدتهم الوطنية ..
قم بكتابة اول تعليق