
جريدة المنبر المغربية ..بقلم الدكتور رضوان غنيمي ..أستاذ التعليم العالي بجامعة ابن زهر أكادير
إن من تمام نعم الله علينا أن تجتمع لدينا أيام الفرح الدينية والوطنية تباعا، ففي غمرة احتفالاتنا بشعيرة الأضحى وما يعقبها من فضائل أيام التشريق وجدنا أنفسنا بعدها بأيام أمام مناسبتين عظيمتين هما أيضا مدعاة فرح وفخر لهذا البلد وأهله وقد جثم علينا هذا الوباء القاتل بكلكله فحرمنا الفرح ومَنَعَنا أسبابه، حديثي عن مناسبتين وطنيتين من آكد المناسبات وهما على التوالي: ثورة الملك والشعب التي يخلدها المغاربة ملكا وشعبا في العشرين من غشت من كل عام وتعقبها بيوم واحد الذكرى الثانية عيد الشباب، وبين الذكرى الأولى والثانية رابط قوي وجامع متين هو الشباب، الشباب أساس نهضة الأمم ودعائم رقيها وتقدمها بل ما كانت لتنجح دعوة أو تستقيم نهضة إلا بالشباب كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وهو النبي المجتبى والرسول المصطفى من خلال اختياراته في إسناد مسؤوليات عظمى في الدولة للشباب فهذا أسامة بن زيد يجعله النبي صلى الله عليه وسلم على رأس جيش فيه أبو بكر وعمر ولم يتجاوز عمره الثامنة عشرة ربيعا، والآخر معاذ بن جبل يرسله قاضيا إلى اليمن وعمره ثلاثة وعشرون عاما بل يعلل صلى الله عليه وسلم اختياره هذا مربيا أمته على ضرورة ربط المسؤولية بالكفاءة فيقول عليه السلام: أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ونحن نستحضر هذه المرحلة المشرقة من تاريخ امتنا حري بنا أن نتساءل كيف هو حال شبابنا اليوم، وأين هو من هذه القامات السامقة في وقت ضعفت فيه الهمم وانحصر الأفق؟
إن احتفالنا اليوم بهاتين المناسبتين العظيمتين قد أظلنا زمانهما ونحن أشد ما نكون حاجة إلى استحضار حقيقة قيم الوطنية، ونحن نستحضر بطولات وتضحيات آبائنا وأجدادنا وملوكنا في سبيل أن ننعم باستقلالنا وحريتنا يغمرنا الألم والأسى على من عصفت بهم رياح جائحة وباء كورونا فقضوا فيها -رحمهم الله جميعا-، فحديثنا عن الاحتفال لا يمكن النظر فيه بمعزل عن السياق العام للبلد لأن الغرض من استحضار الناس أمجادهم ومحطات فخرهم أن يزنوا بها حاضرهم ويستشرفوا من خلالها مستقبلهم عن طريق استلهام العبر والدروس لشدة ارتباط الماضي بالحاضر والمستقبل، ويمكن أن نلخص كل ذلك في مقياس درجة التشبع بقيم الوطنية التي تتنوع مظاهرها وتجلياتها مراعاة لتنوع الأزمنة والظروف والأمكنة، وإذا كنا نتحدث عن قيم المواطنة لدى آبائنا وأجدادنا في زمن مضى وقد ارتبطت بمدى استعدادهم التضحية بأنفسهم وأموالهم في سبيل وطنهم فإن حقيقة الوطنية اليوم تستوجب مستوى أقل من ذلك لكنه مطلوب الفعل بخصوصه، إذا كانت حقيقة التدين اليوم تقتضي تباعد الناس في أعظم الطاعات وهي العبادة القائمة على التقارب والتراص فإن حقيقة الوطنية اليوم تقتضي منا أقل مستويات التضحية وهي التزام الإجراءات الاحترازية من هذا الوباء، إن حقيقة الوطنية اليوم تقتضي تخفيف شدة ووطأة مصاب هذا الوباء وتداعياته على الوطن فقط بحماية النفس، مؤسف ومؤلم حال انتكاسة قيمنا الوطنية، كيف لا ونحن نستحضر تضحية الآباء والاجداد بأنفسهم وأموالهم في وقت عجز الكثيرون منا عن التضحية بعطلهم والحد من تنقلاتهم رغم أن فيها هلاكهم، عن أي مواطنة نتحدث وعن أي إرادة تغيير نتحدث ونحن عاجزون عن ضبط أنفسنا أمام مُتع موسمية روتينية لطالما عشناها؟، في الحقيقة لا أدري بأي ميزان يزن بعض الناس أمورهم، فإذا كانت العبادات قد عطلت تقديما لحفظ كل النفس على آحاد الدين أليس من الأولى أن تُعطل مشاريع الأسفار والعطل؟
إذا كان اجدادنا ضحوا بالغالي والنفيس من أجل حريتنا وسلامتنا فإننا اليوم مطالبون بتجديد هذا العهد والسير على نهجهم وخطاهم في مواجهة هذا الوباء، وإذا كانوا ضحوا بأنفسهم من أجل وطنهم فإننا نحن اليوم مطالبون بحفظ أنفسنا حفاظا على وطننا، لكن ورغم يسر المطلوب يظهر العجز مع اتساع رقعة تفشي الوباء في ربوع البلاد، أيعجز المغاربة عن حفظ أنفسهم؟ أيعجز المغاربة عن تأجيل عطلهم وأسفارهم إلى وقت تتحقق فيه سلامتهم؟ ماذا تفضلون عطلة مؤجلة أو ميتة معجلة؟ لماذا تبلدت مشاعرنا إلى هذا الحد حتى أصبح الواحد منا يطيب له السفر والاستجمام وهو يتابع إصابة المئات يوميا وموت العشرات؟
ان استهتار الناس بالإجراءات الاحترازية التي فيها سلامتنا واستخفافهم بها باعتبارها صمام أمان بعد حفظ الله عز وجل ضد هذا الوباء، وما نتج عن ذلك من انتكاسة وبائية على مستوى عدد الضحايا والمستقبل ينبئ بالأسوء، كل ذلك دال في سياقه على تغييب قيم الوطنية وحقيقة المواطنة.
إن استهتارك ورعونتك وأنانيتك…هي التي تقتل الأبرياء يوميا.
لا يستوعب هذا الكلام إلا من تربى على أن من عاش لنفسه عاش صغيرا ومات حقيرا ومن عاش لغيره عاش كريما ومات عظيما.
رفع الله عنا الوباء وأبعد البلاء
قم بكتابة اول تعليق